وصلني منشور يريد كاتبه أن يمرر رسالة مفادها أن دوواين السُّنَّة التي بين أيدينا مجرد روايات منقطعة الجذور مبتوتة الصلة عن مصدرها وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يغرس في الأذهان أن بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم هوة سحيقة ومسافة شاسعة تصل إلى حوالي 180 سنة!
وليست هذه الشبهات وليدة اليوم، بل هي قديمة متجددة، يراد إحياؤها من حين لآخر ضمن سياق الحرب العقدية الفكرية التي هي سنة من سنن الله في الكون ليُعلَم المستيقن ممن هو في شك.
ولئن كانت هناك فجوة زمنية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين مصنفي دواوين السنة، فلعمري لقد بنى هؤلاء الأعلام فوق هذه الفجوة جسراً يُمَكِّن من أراد الوصول إلى نور السنة أن يعبر عليه وَكُلُّه ثقة ويقين.
حتى غَدَتْ ملَّةُ الإسلام وهي بهم
مِن بَعد غُرْبَتِها موصولةَ الرحِمِ
مكفولةً أبداً منهمْ بخيرِ أبٍ
وخيرِ بَعْلٍ فلمْ تَيْتَمْ ولم تَئِمِ
لقد اختص الله تعالى هذه الأمة بعلم الإسناد، حتى استفاد كثير من الباحثين من غير المسلمين من هذا العلم.
يقول المؤرخ المسيحي اللبناني أسد رستم في كتابه مصطلح التاريخ: "ومما يُذْكَر مع فريد الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في هذا الباب، وإليك بعض ما جاء في مصنفاتهم نورده بحرفه وحذافيره تنويهًا بتدقيقهم العلمي، اعترافًا بفضلهم على التاريخ" انتهى
ويقول (جوستاف لوبون) في كتابه حياة الحقائق: "بينما حياة بعض مؤسِّسي الدِّيانات مثل محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم-واضحةٌ معروفة، ظلَّت حياة مؤسِّسي المسيحية على وجه التقريب مجهولةً" نقلا عن كتاب موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين 4 / 55 هامش
سلسلة الإسناد التي تحوي أربعة أو خمسة أسماء، والتي قد يحويها سطر أو بعض سطر، وربما تقرؤها في عشر ثوانٍ وأنت جالس في مكتبتك أو متكئ على أريكتك - هذه السلسلة ربما بقي العالِم المحدّث سنوات طوالاً حتى نظَم سِلْكَها، وهو يتجشم مشاق السفر ويركض راحلته من بلد إلى بلد،
حتى عُرِف في كتب علوم الحديث باب (الرحلة في طلب الحديث)، وهو طافح بأمثلة التَّطواف بين الأمصار طلباً للحديث.
بل قد يرحل بعض المحدثين لا ليطلب حديثاً ليس عنده أصلاً، بل ليطلب علو الإسناد، أي ليقلل عدد الرواة في سلسلة الاسناد ما أمكنه وهذا ما يجعل الحديث "عاليا" أي قليل حلقات سلسلة الرواة فيزيده قوة إلى قوته.
قال التابعي أبو العالية : "كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا نرضى حتى نركب إلى المدينة فنسمعها من أفواههم "
وقد حبب الله إلى ثلة من عباده التعب في طريق العلم ليحفظ بهم دينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال الخطيب: "ولو كان حكم المتصل والمرسل واحدا لما ارتحل كتبة الحديث وتكلفوا مشاق الأسفار الى ما بَعُدَ مِن الأقطار للقاء العلماء والسماع منهم في سائر الآفاق" وبعد أن ذَكَر أمثلة على ارتحال الصحابة ومَن بعدَهُم في طلب الحديث قال: "فلو كان المرسل يغني عن المتصل إذ هو بمثابته لما تعب القوم هذا التعب كله ولا اعملوا المطي بالرحل وادخلوا المشاق على أنفسهم وتشددوا على من سمعوا منه التشدد المأثور عنهم" ثم روى عن أبي بكر بن إسحق قولَه:"
قال الشيخ ابن تيمية: "وقام علماء النقل والنُّقَّاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيه لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتِّلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة، والقصص المأثورة، ما هو عند أهله معلوم، .... أمر حببه الله إليهم وحلاه ليحفظ بذلك دين الله. كما جعل البيت مثابة للناس وأمنًا، يقصدونه من كل فج عميق، ويتحملون فيه أمورًا مؤلمة تحصل في الطريق، وكما حبب إلى أهل القتال الجهاد بالنفس والمال حكمة من الله يحفظ بها الدين ليهدى المهتدين، ويظهر به الهدى ودين الحق، الذي بعث به رسوله ولو كره المشركون” أوائل المجلد الأول.
ولقد كان مصنفو دواوين السُّنَّة المعروفةُ بالكتب الستة هم أنفسُهم أمثلةً واضحةً على جهود الرحلة في طلب الحديث وجمعه:
البخاري: من مدينة بخارى (تقع الآن في دولة أزبكستان). رحل إلى مكة والمدينة وبغداد وواسط والبصرة والكوفة، ودمشق وقيسارية وعسقلان، وخراسان ونيسابور ومرو، وهراة ومصر وغيرها…
يقول: "دخلت إلى الشام ومصر والجزيرة مرتين، وإلى البصرة أربع مرات، وأقمت بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد” [هدْي الساري]
روى البخاري عن أكثر من ألف شيخ، ومن أشهر شيوخه الذين روى عنهم: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، وقتيبة بن سعيد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو حاتم الرازي.
صنٌَف كتابه الجامع المعروف بصحيح في ستة عشر عاماً ظل فيها متنقلا من بلد إلى بلد، يجمع وينقح، ويحذف ويغربل، حتى استحق كتابه أن يكون أصح كتاب بعد القرآن.
مسلم: من نيسابور (تقع الآن في إيران)رحل إلى مكة والمدينة والبصرة والكوفة وبغداد والري، ومصر، والشام وغيرها.
ويعد البخاري من أبرز شيوخه،
النَّسائي: مِن نَسا (تقع الآن بتركمانستان)، قال الذهبي: "جال في طلب العلم في خراسان ، والحجاز ، ومصر ، والعراق ، والجزيرة ، والشام ، والثغور ، ثم استوطن مصر ، ورحل الحفاظ إليه"
ومن شيوخ النسائي: يونس بن عبد الأعلى الصدفي أحد أبرز تلاميذ الإمام الشافعي،
ومعلوم أن الإمام الشافعي أحد أبرز التلاميذ النجباء للإمام مالك رضي الله عنه، إمام دار الهجرة التي هي المدينة مهبط الوحي وبها عاش الصحابة وأبناؤهم وأحفادهم وهم الذين نقل عنهم الإمام مالك الحديث والآثار والفقه ورأى آثارهم وأسواقهم وأوقافهم ومكاييلهم وحفظ كيفيات عباداتهم ومعاملاتهم، وهذه رَحِمٌ أخرى موصولة صلةً وُثْقَى تتوارثها الأجيال، وهذه الرَّحِمُ هي إحدى مآثر مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، الذي جعل عملَ أهل المدينة أصلاً من أصول مذهبه.
جاء في ترتيب المدارك: "قال أبو يوسف (لِمالِكٍ)تؤذنون بالترجيع وليس عندكم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه حديث؟!
فالتفت مالك إليه وقال: يا سبحان الله!ما رأيت أمراً أعجب من هذا! يُنادَى على رؤوس الأشهاد في كل يوم خمس مرات، يتوارثه الأبناء عن الآباء مِن لَدُنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، أيُحْتاجُ فيه إلى فلان عن فلان؟!
هذا أصح عندنا من الحديث.
وسأله عن الصاع فقال: خمسة أرطال وثلث. فقال: ومن أين قلتم ذلك؟ فقال مالك لبعض أصحابه: أحضروا ما عندكم من الصاع فأتى أهل المدينة أو عامتهم، من المهاجرين والأنصار وتحت كل واحد منهم صاع.
فقال: هذا صاع ورثته عن أبي جدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال مالك: هذا الخبر الشائع عندنا أثبت من الحديث.
فرجع أبو يوسف إلى قوله.
وقال مالك: الجمعة إذا وافقت عرفة لا يُجْهَر فيها. يتوارثها الأبناء عن الآباء من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا"
أبو داود: من سجستان (تقع الآن في أفغانستان)رحل إلى مكة والبصرة والكوفة وبغداد وبلخ وخراسان ومدن الشام: دمشق وحلب وحمص وحران.
قال الذهبي في ترجمته: "رحل وجمع وصنف وبرع في هذا الشأن" وقال فيه:
"من نجباء أصحاب الإمام أحمد ، لازم مجلسه مدة ، وسأله عن دِقَاق المسائل في الفروع والأصول .
الترمذي: من تِرْمِذ (تقع الآن في أزبكستان)، يقول فيه ابن حجر في التهذيب: "أحد الأئمة، طاف البلاد وسمع خلقاً من الخراسانيين والعراقيين والحجازيين"
وقال الترمذي عن كتابه جامع الترمذي الذي يسميه الناس (السنن): "وعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان، فرضوا به" سير أعلام النبلاء
قال الذهبي: "وارتحل ، فسمع بخراسان والعراق والحرمين"
وبعد أن ذكر الذهبي ستة وثلاثين شيخاً روى عنهم الترمذي قال: "فأَقْدَمُ ما عنده حديثُ مالكٍ والحَمَّادَيْنِ ، والليث وقيس بن الربيع، وينزل حتى إنه أكثرَ عن البخاري وأصحاب هشام بن عمار ونحوه".
ابن ماجه: من قزوين (وتقع الان في إيران)
قال أبو يعلى: "ارتحل إلى العراقين ، ومكة والشام ، ومصر والري لِكَتْب الحديث" انظر سير أعلام النبلاء
ثم إن انتشار الصحابة في الأمصار كان من أكبر الأسباب التي ردمت فجوة الجغرافيا، والتي أراد صاحب المنشور أن يوظفها للتشكيك في الرحِم السُّنِّية الموصولة جغرافياً كما اتصلت تاريخياً، ولهذا لم يُشِر من قريب ولا من بعيد إلى انتشارهم، وإلا لكرَّ على شُبْهَتِه بالنقض والإبطال.
وهاك أمثلةً تطلعك على ما وراءها:
عمار بن ياسر: استقر بالكوفة والياً عليها لعمر بن الخطاب.
عبد الله بن مسعود: استقر بالكوفة وأخذ عنه الحديث والفقه كل من: علقمة بن قيس ومسروق وإبراهيم النخعي وقتادة والحسن البصري والأسود بن يزيد، .
روى ابن حزم بإسناده عن حارثة بن مضرب قال: قرأت كتاب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة: "إني بعثت عليكم عمارا أميرا وعبد الله (ابن مسعود) معلما ووزيرا..."
أبو موسى الأشعري: استقر بالبصرة والياً عليها لعمر وعثمان. وفتح الرُّها (تقع الآن في تركيا)والأهواز (تقع الآن في إيران) وسميساط (تقع الآن في تركيا)وتوفي بمكة سنة 32 للهجرة
وقال ابن حزم: "البصرة بناها عتبة بن غزوان ...بدري من أكابر المهاجرين الأولين ....سنة أربع عشرة من الهجرة في صدر أيام عمر رضي الله عنه ...وسكنها الصحابة والتابعون رضي الله عنهم ووليها أبو موسى الأشعري بعد عتبة بن غزوان والمغيرة بن شعبة وغيرهما أيام عمر وطول أيام عثمان رضي الله عنهما وولي قبض زكاتها أنس بن مالك في تلك الأيام"
كما ذكر ابن حزم أن البصرة سكنها "عشرات الألوف من المسلمين منهم مئون (أي مئات) من الصحابة رضي الله عنهم ....والوفود من البصرة يفدون على الخليفتين (أي عمر وعثمان) بالمدينة"
أنس بن مالك: خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد المكثرين من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاش 103 سنين وهو آخر من توفي من الصحابة، شارك في فتوح العراق وبلاد فارس كما شهد فتح (تُسْتَر) وشارك في معركة القادسية.
جابر بن عبد الله: أحد المكثرين، دخل مصر في طلب سماع حديثٍ من عبد الله بن أُنَيس رضي الله عنهما. ودخل الشام
عمرو بن العاص: فتح مصر وصار والياً عليها بأمر عمر بن الخطاب.
عبد الرحمن بن سّمُرة افتتح كابل وبقي فيها سنتين
وفتح سجستان والرخج وغيرها واستقر بالبصرة.
وأما عن أعلام التابعين فنكتفي بذكر:
سعيد بن المسيب بن حزن:
أبوه وجده صحابيان، وهو سيد التابعين وأحد فقهاء المدينة السبعة وزوج بنت أبي هريرة أحفظ الصحابة، روى عن قريب من أربعين صحابيا كما ذكر البدر العيني في عمدة القاري، وروى عنه خلقٌ لا يُحْصَون.
وممن روى عنه من التابعين:
ابن شهاب الزهري (58 - 124):
له في كتب السنة أكثر من ألْفَيْ حديثٍ مسند،
قال أبو الزناد: كنا نطوف مع الزهري على العلماء ومعه الألواح والصحف يكتب كلما سمع.
قال ابن شهاب: "مست ركبتي ركبة سعيد بن المسيب ثماني سنين"
ومن تلاميذ ابن شهاب من التابعين:
الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (توفي سنة101).
وهذا التلميذ الخليفة أمَرَ والِيَه على المدينة أبا بكر بن حزم بجمع الحديث إذ كَتَب إليه يقول: "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروسَ (أي اختفاء) العلم وذهاب العلماء. ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يُعَلَّمَ من لا يَعْلَم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً"ذكره البخاري تعليقاً في كتاب العلم من صحيحه.
ولو ذهبنا نسرد السير العلمية لكبار الرواة ممن بعد الصحابة، وجَمْعَهم الحديث وعمَّن روَوا، والجماهيرَ التي روت عنهم، لَبَلَغْنا اليقين، ولَتبيَّن لنا الغَثُّ من السمين، الموضوع طويل ومهم وممتع، ولكن اشترطت عدم الإطالة ولا إيصال القراء إلى الملالة، ولم تتناول هذه المقالةُ إلا مفرَدةً واحدة من مُفْرَدات علم الحديث وهو اتصال الإسناد، ولكن لتكن مجردَ دعوة للمتشككين إلى مزيد من النظر والبحث.
وفيما ذكرنا كفاية لمن سبقت له من الله العناية، وهو الهادي إلى سواء السبيل